للأستاذ الدكتور محمد بن إبراهيم الجار الله – جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
يقصد بالإشعاع المؤين تلك الأشعة التي لها القابلية لفلق الذرات والجزئيات التي تتكون منها المادة ومن ضمنها أجساد الكائنات الحية ، وتشمل الأشعة السينية وأشعة جاما والالكترونات وجسيمات الفا والنيوترونات والبروتونات ... الخ . والمقصود بفلق الذرات والجزئيات هو تحرير الالكترونات من مداراتها حول نوى الذرات والجزئيات مؤدياً ذلك إلى تأيينها أي جعلها غير متعادلة كهربائياً . إن الضوء المرئي وموجات المذياع مثلاً هي من أشكال الأشعة ولكنها لا تعتبر ضمن الإشعاع المؤين لعدم قدرتها على فلق الذرات والجزئيات .
سنتناول في هذه المقالة قصة اكتشاف رونتجن للأشعة السينية واكتشاف بيكريل للنشاط الإشعاعي الطبيعي ، ثم نتبعه بنبذة موجزة عن أهم استخدامات الإشعاع المؤين .
ولد وليهلم كونارد رونتجن عام 1845 في المانيا ودرس الهندسة الميكانيكية في زيوريخ بسويسرا ثم تحول من العلوم التطبيقية إلى العلوم البحتة في معظم أفرع الفيزياء ، وقد شغل العديد من المناصب في الجامعات الألمانية التي عمل بها . وفي عام 1888 انتقل إلى جامعة ورزييرك مكان شديد الاهتمام بتجارب أشعة المهبط (الالكترونات) التي لم تكن تعرف ماهيتها وقتئذ . وللحصول على أشعة المهبط يوضع جهد كهربائي عال بين قطبيين موضوعيين داخل أنبوبة زجاجية منخفضة الضغط . ويمكن مشاهدة مسار أشعة المهبط (التيار الكهربائي) داخل الأنبوبة نتيجة تأين ذرات الغاز المتبقية في الأنبوبة حيث تطلق ضوءاً مرئياً حين عودة الالكترونات إلى مداراتها حول نوى الذرات . لقد أنشأ رونتجن مختبراً خاصاً لهذا الغرض وكان مهتماً بصورة خاصة في تفلور سيانيد الباريوم البلاتيني . وظاهرة التفلور هي خاصة تمتاز بها بعض المركبات وتتلخص بقدرتها على امتصاص الطاقة عند تعرضها للضوء مثلاً وإمساكها قليلاً ثم إطلاقها كضوء بطول موجي أكبر . أما ظاهرة التفسفر فهي شبيهة بظاهرة التفلور إلا أن المركبات في هذه الحالة تمسك الطاقة مدة أطول قبل إطلاقها.
وفي عام 1895 عندما كان رونتجن يعمل في غرفة مظلمة ، مرر تياراً كهربائياً خلال أنبوبة أشعة المهبط التي كانت محاطة تماماً بورق مقوي أسود اللون بحيث لم يكن يرى التفلور الحاصل بداخل الأنبوبة وكانت دهشته كبيرة حين شاهد حزمة من الضوء تبعد عدة أقدام عن الأنبوبة ، منبعثة عن ورقة مطلية ببسيانيد الباريوم البلاتيني . وبإيقاف وتشغيل جهازه تأكد له أن ظاهرة التفلور التي شاهدها مرتبطة بأنبوبة أشعة المهبط .
ونظراً لمعرفته بأن أشعة المهبط لا يمكنها قطع هذه المسافة – لقصر مداها – استنتج أنه قد أنتج نوعاً آخر جديداً من الإشعاع أشد قدرة من أشعة المهبط . ولعدم لعلمه بماهيتها أسماها بأشعة أكس (×) ونسميها نحن بالأشعة السينية ، ولم تعرف ماهية هذه الأشعة إلا بعد ستة عشر عاماً من اكتشافها .
بمقدور هذه الأشعة اختراق مواد مختلفة مثل الورق والخشب وصفائح المعادن ، وجميع هذه المواد تعتبر معتمة للضوء . وفي أثناء انشغال رونتجن في أحد تجاربه على هذه الأشعة وقعت يده مصادقة بين أنبوبة أشعة المهبط وشاشة التفلور فشاهد صورة عظام يده على الشاشة . وبالاستعانة بلوح فوتوغرافي – وكان التصوير الفوتوغرافي معروفاً في ذلك الحين – استطاع رونتجن أخذ أول صورة بالأشعة السينية أظهرت تركيب عظام يد زوجته . لقد عرفت الأهمية الكبيرة للأشعة السينية في الطب خلال أشهر من اكتشافها ، وقبل انتهاء القرن التاسع عشر صنع جهاز أشعة سينية منتقل للمساعدة في تحديد مكان الطلقات أو الشظايا في أجساد جرحى الحروب . ولا يحتاج المرء أن يكون عالماً حتى يستطيع تقدير أهمية هذا الاكتشاف.
حصل رونتجن على جائزة نوبل الأولى في الفيزياء عام 1902 وتوفي عام 1923 .
أما هنري بيكريل فهو فرنسي الأصل والمنشأ . ولد عام 1852 وكان مهتماً بدراسة ظاهرتي التفسفر والتفلور . وفي أوائل عام 1896 عندما نمى إلى أسماعه اكتشاف رونتجن للأشعة السينية ظن بوجود علاقة بين ظاهرتي التفسفر والأشعة السينية فهرع إلى مختبره لدراسة تلك العلاقة . ولكن تجاربه الأولى في هذا المجال لم تثبت أي علاقة بين الظاهرتين.
ومع هذا فقد عاود الكرة ثانية مستخدماً في هذه المرة ملحاً لليورانيوم يدعى كبريتات اليورانيل البوتاسيومية .
ولما كان بيكريل يعتقد أن الإشعاع ما هو إلا نتيجة للإضاءة الخارجية فقد عمد إلى وضع ملح اليورانيوم على لوح فوتوغرافي ملفوف في ورق أسود يحول دون نفاذ الضوء ثم تركه على قاعدة النافذة عدة ساعات ليتعرض لضوء الشمس ، وعندما أتم تحميض اللوح الفوتوغرافي ظهرت عليه بوضوح بقعة سمراء في المكان الذي وضع عليه ملح اليورانيوم وكرر الرجل التجربة عدة مرات ، وفي كل مرة كانت البقعة السمراء تظهر واضحة جلية حتى عند وضع صفيحة زجاجية بين ملح اليورانيوم واللوح الفوتوغرافي .
وفي يومي 26 و 27 من فبراير عام 1896 غطيت سماء باريس بسحب كثيفة ، انهمر منها المطر بلا انقطاع وكانت الحياة في الطرقات تتوارى خلف مظلات المقاهي والمطاعم . وفي ظل تلك الظروف وضع بيكريل ملح اليورانيوم فوق لوح فوتوغرافي في درج مكتبه منتظراً تحسن لطقس ولكن الشمس لم تظهر إلا بعد عدة أيام ، لذا قام بيكريل بتحميض اللوح في الأول من مارس فوجد هذه المرة بقعة شديدة الاسوداد حيث وضع ملح اليورانيوم ، فتبين له أن لا علاقة بين اسوداد اللوح وتعريض ملح اليورانيوم لأشعة الشمس إذ استمرت عملية تسويد اللوح طوال الوقت الذي بقي فيه الملح في الدرج المظلم بمكتبه .
وبهذا اكتشف بيكريل النشاط الإشعاعي الطبيعي لليورانيوم ، ووجد أن هذا النشاط لا يعتمد على حالة المادة الفيزيائية أو الكيميائية بل هو من الصفات الذرية لمعدن اليورانيوم ، وأثبت أن لهذه الأشعة القدرة على تأيين الغازات وبهذا أوجد طريقة ثانية لقياس النشاط الإشعاعي – غير طريقة اللوح الفوتوغرافي – وذلك بقياس التأين الذي تحدثه . ولقد أكملت ماريا سكلودسكا وزوجها بيير كوري البحث في النشاط الإشعاعي الطبيعي للعناصر الأخرى متكشفين ثلاثة عناصر نشطة إشعاعياً أهمها عنصر الراديوم ، وقد حصل هنري بيكريل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903 بالاشتراك مع عائلة كوري لاكتشافهم النشاط الإشعاعي الطبيعي.
لقد كان لاكتشاف الإشعاع المؤين أثر ملحوظ في تشييد صرح العلم وفي انتفاع بني البشر به في مجالات جد متباينة حتى أضحى من المتعذر الاستغناء عن العديد من استخداماته المفيدة . ففي الطب هناك ثلاثة تطبيقات مختلفة للإشعاع المؤين أحدها علاجي والآخران تشخيصيان:
يستخدم الإشعاع المؤين في تشخيص الأمراض ، فطبيب الأسنان قد يقوم بأخذ صورة بالأشعة السينية للبحث عن تجويف خفي في الأسنان ، والطبيب قد يأخذ صورة بالأشعة السينية لتحديد كسر في العظام أو للبحث عن بعض الشذوذ الذي يصعب تحديده في جسم الإنسان ، وهذا المجال يسمى التشخيص بالأشعة السينية .
تعطى النظائر المشعة لبعض المرضى ، وهذه النظائر تطلق إشعاعاً يمكن كشفه من خارج الجسم بعد تجمعه في أحد الأعضاء . والغرض من هذا الاختبار قد يكون لتقويم نشاط الجسم أو للكشف عن مرض خفي .. وهذا الاستعمال للمواد المشعة يدعى الطب النووي .
قد يستعمل الإشعاع لا لكشف مرض ولكن لعلاجه وهذا المجال يسمى العلاج الإشعاعي.
وفي الصناعة يستخدم الإشعاع المؤين حالياً وعلى نطاق واسع في تعقيم الأجهزة والمعدات الطبية مثل الحقن والكفوف الطبية وأجهزة نقل الدم ووحدات تنظيف الدم التي يستخدمها مرضى الكلى .
كذلك يستخدم الإشعاع المؤين الآن بصورة تجارية في تحسين أنواع اللدائن والمطاط والخشب، حيث تبين أن تعرض هذه المواد لأشعة جاما يساعد على تحسين صفاتها النوعية .. كما وتستخدم النيوترونات في التنقيب عن البترول والفحم الحجري والمعادن الثمينة الكامنة في باطن الأرض وفي أعماق البحر.
لقد وجد الإشعاع المؤين طريقه في مجالات عدة في الزراعة إذ استعمل، ولا يزال، في تطوير أنواع جيدة من البذور حيث يستفاد من خاصية هذا الإشعاع في إحداث الطفرات للحصول على بذور لها صفات ملائمة مثل مقاومتها للآفات الزراعية وزيادة الإنتاج وارتفاع نسبة البروتين.
ويستخدم الإشعاع المؤين حالياً وبازدياد مضطرد في حفظ الأغذية، فتستعمل أشعة جاما في إطالة عمر التخزين لبعض المنتجات كالبطاطا والبصل وذلك بقتل الخلايا القابلة للانقسام والتي تسبب ظهور البراعم، وفي قتل الحشرات أو عقمها لمنعها من مهاجمة المحاصيل الزراعية وإتلافها.
للإشعاع المؤين دور كبير في انتاج الطاقة حيث يستغل أحد أنواع التفاعل النووي، وهو الانشطار الذي يحدث لنوى ذرات بعض العناصر الثقيلة مثل اليورانيوم نتيجة قذفها بالنيوترونات مولدة نوى أصغر ومنتجه طاقة كبيرة مساوية للفرق بين كتل النوى الأم ومجموع الكتل الوليدة. ويتم التحكم في هذا الإنشطار النووي وضبطه في المفاعلات النووية أما إذا لم يكن الإنشطار النووي متحكما به وكانت كتلة اليورانيوم كافية فقد يؤدي ذلك إلى الانفجار النووي، وعلى هذا الأساس تصنع القنابل النووية.
للإشعاع المؤين دور مهم في البحوث العلمية، البحتة منها والتطبيقية حتى أنه قد تكونت له فروع متخصصة في مجالات عديدة مثل الفيزياء والكيمياء والأحياء وعلوم الأرض فطريقة التحليل بالتنشيط الإشعاعي الصناعي بالنيوترونات أصبحت تستخدم على نطاق واسع جداً في التجارب الرتيبة والحديثة معاً نظراً لسهولتها ولدقتها المتناهية في الكشف عن آثار العناصر المختلفة في العينات السائلة منها والصلبة.
ومع ما للإشعاع المؤين من استخدامات مفيدة في حياتنا فإن له مضار واضحة على صحتنا وبيئتنا وعلى سلالتنا من بعد، وتقسم تأثيرات الإشعاع المؤين على الإنسان عادة إلى صنفين التأثيرات الجسدية وتنتج عن التلف في عموم خلايا الجسم، وتؤثر في نفس الشخص المتعرض للإشعاع . أما الصنف الثاني من التأثيرات فهي التأثيرات الوراثية وتحدث بسبب تلف في الخلايا التناسلية في المناسل- وهي الخصيتان والمبيضان- وفي هذه الحالة يمكن أن ينتقل التلف إلى ذرية الشخص، ولا يظهر هذا الصنف من التأثيرات عادة على الأشخاص المتعرضين للإشعاع المؤين إلا في حالة حدوث العقم.
لقد ظهر الكثير من هذه التأثيرات على العديد من مكتشفي ومستخدمي الإشعاع المؤين الأوائل نتيجة لعدم أخذهم الحيطة في التوقي من هذا الإشعاع خلال تعاملهم معه لجهلهم بهذه التأثيرات، فماريا وزوجها كوري مثلاً قد أصيبت أيديهما بالحروق الإشعاعية نتيجة تداولهما الطويل للراديوم المشع، ثم توفيت ماريا كوري وابنتها ايرين بسبب إصابتهما باللوكيميا وهو سرطان خلايا الدم البيضاء، ويحدث – من بين مسببات أخرى – نتيجة استقرار الراديوم المشع في العظام التي تعتبر أحد المراكز النشطة في صنع خلايا الدم البيضاء بجسم الإنسان. ولابد أن يكون الراديوم قد دخل جسمهما عن طريق المنافذ الأربعة وهي الأنف والفم والجروح والجلد بالامتصاص عند تلوثه.
ولدرء مخاطر الإشعاع المؤين أنشئت هيئات وطنية دولية متخصصة لتنظيم استخداماته. ونأمل أن يتم، في القريب العاجل، إنشاء وحدة الوقاية الإشعاعية في بلدنا لتتولى وضع الأنظمة والمعايير للإشعاع المؤين وتشرف على استخداماته نظراً للحاجة الماسة لها نتيجة التوسع الكبير في استخدام هذه الأشعة مع النهضة التي نشهدها.
</BLOCKQUOTE>
الجمعة سبتمبر 14, 2012 10:01 am من طرف محمد المندلاوي
» انواع دايود الليزر
الجمعة سبتمبر 14, 2012 9:58 am من طرف محمد المندلاوي
» ماهو الغشاء الرقيق؟
الجمعة سبتمبر 14, 2012 9:49 am من طرف محمد المندلاوي
» حروف تدل على شخصية المراة ؟؟
الجمعة أكتوبر 29, 2010 10:57 am من طرف الودق
» خاطرة ...!
الأربعاء أكتوبر 13, 2010 12:30 pm من طرف mazin2010
» قصة .. توقف لسانه عن الكلام عندما علم أنها ابنة 17 سنة
الأربعاء أكتوبر 06, 2010 3:08 pm من طرف mazin2010
» شاب يخاطب المساجد ...!!!! كم هو جميل ..؟؟!!!
الأربعاء أكتوبر 06, 2010 3:07 pm من طرف mazin2010
» حدث في 25 سبتمبر
الأربعاء أكتوبر 06, 2010 3:02 pm من طرف mazin2010
» حدث في 16 شوال
الأربعاء أكتوبر 06, 2010 2:59 pm من طرف mazin2010